اللغة العثمانية.. عنقاء تنفض غبار الأتاتوركية

لوحات فنيه بالأحرف العثمانية
لوحات فنيه بالأحرف العثمانية (الجزيرة)

وسيمة بن صالح – إسطنبول

غابت اللغة العثمانية عن المجتمع التركي بين ليلة وضحايا، لكنها قاومت الاندثار، وبدأت تعود إلى الحياة مجددا في السنوات الأخيرة، فقد بدأت تعقد العديد من الدورات لتعليمها، وزاد الإقبال عليها من قبل الطلاب والباحثين والأكاديميين.

لكن الحكومة التركية قررت تعميم ذلك على باقي الفئات، وأوصى مجلس الشورى لوزارة التعليم التركية بإدراج تعليم اللغة العثمانية كمادة إلزامية في مناهج مدارس الأئمة والخطباء ومدارس العلوم الاجتماعية، وكمادة اختيارية في مناهج المدارس الثانوية الأخرى.

علمانيو تركيا اتهموا الحكومة وخاصة رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان بسعيه لإعادة البلاد مئات السنوات إلى الوراء، وزجها في دوامة الجهل، وتربية الجيل الجديد على الأحرف والثقافة العربية.
لكن أردوغان اعتبر سلب مجتمع لغته بمثابة "سلبه حضارته وذاكرته"، وانتقد من يقول إن الحكومة تسعى لتعليم الجيل الجديد قراءة شواهد القبور المكتوبة باللغة العثمانية، مشيرا إلى أن التاريخ والحضارة يرقد تحت تلك الشواهد، ومتسائلا "أي جهل أكثر من عدم معرفة الجيل الجديد من يرقد تحتها؟".

الكتابة العثمانية على جدران المباني القديمة بتركيا (الجزيرة)
الكتابة العثمانية على جدران المباني القديمة بتركيا (الجزيرة)

ضحية الجمهورية
في العام 1928 وجد شعب برمته نفسه -بين ليلة وضحايا- مجبرا على تعلم نظام أبجدية جديدة، إذ ألغى مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك استعمال الأحرف العربية واستبدل بها الحروف اللاتينية في ما عرفت بثورة الأحرف. كما جرد اللغة من الكلمات العربية والفارسية، ومنع نهائيا تعليم اللغة العثمانية.

ويعزو مؤرخون فعلته تلك إلى سعيه لإنشاء شعب جديد على أسس قومية تركية ذات ميول غربية وخالية من كل ما يمتّ إلى الدين بصلة، إضافة إلى منع الأجيال القادمة من قراءة الكتب القديمة باللغة العثمانية، ونشر كتب باللغة التركية الجديدة تحت رقابة النظام العلماني الجديد.

وكان شاعر تركيا محمد عاكف أرسوي قد نظم النشيد الوطني التركي باللغة العثمانية، ثم تمت كتابته فيما بعد بالأحرف التركية الجديدة، لكنه ما زال يحتوي على كلمات كثيرة لا يعرف معناها جيل اليوم.
خبراء اللغة الأتراك لا يعتبرون اللغة العثمانية "لغة مستقلة مختلفة"، بل هي النسخة القديمة للغة التركية المستخدمة حاليا، لكنها مكتوبة بالأحرف العربية، وتتشكل في معظمها من كلمات عربية وفارسية.

وتتكون اللغة العثمانية من 34 حرفا، تجمع كافة أحرف اللغة العربية إضافة إلى ستة أحرف فارسية.
وتدعي الكتب التاريخية التركية أن نسبة قراءة اللغة العثمانية وكتابتها كانت متدنية جدا في أوساط الشعب قبيل الجمهورية التركية الجديدة، وأنها كانت لغة منمقة ذات أسلوب راق في التعبير تستخدمها فقط نخبة المجتمع المرتبطة بالبلاط العثماني والمثقفون المستقلون عنه.

محمد فاطسة خلال درس خصوصي للغة العثمانية (الجزيرة)
محمد فاطسة خلال درس خصوصي للغة العثمانية (الجزيرة)

إقبال على تعلم اللغة
تنقسم دورات تعليم العثمانية إلى أربعة مستويات، تبدأ بتدريس نصوص بسيطة بالكلمات التركية الجديدة، ثم تعليم خط الرقعة، وتعليم قواعد الإملاء في اللغتين العربية والفارسية، وبعد ذلك قراءة الوثائق المكتوبة بها.

محمد فاطسة ما زال منذ أكثر من عشر سنوات يقدم دروسا خاصة للغة العثمانية، وأكد للجزيرة نت أن الإقبال على تعلمها كبير، لكنه لا يرقى إلى مستوى الإقبال على دورات باقي اللغات مثل الإنجليزية.

وانتقد فاطسة الاتهامات التي تطال تلك اللغة، معتبرا أن قراءتها سهلة جدا رغم صعوبة كتابتها التي تشترط مستوى تعليميا عاليا. كما نفى بُعدها عن الشعب في عهد الدولة العثمانية، لأن الناس وقتها -بحسبه- كانوا يرسلون أبناءهم إلى الكتاتيب لتعلم القرآن واللغة العربية، مما كان يسهل عليهم قراءتها.

وأكد أنه لو استمر تعليم اللغة العثمانية بعد قيام الجمهورية التركية لما عانى الأتراك اليوم من تعلّم اللغات الأجنبية، متسائلا عن عدم وصف العلمانيين والقوميين "أتاتورك بالرجعي والمتخلف" وهو الذي كان يتكلم اللغتين العربية والفارسية، حسب قوله.

ونفى فاطسة أن تفقد العثمانية مكانتها عند الأتراك، مشيرا إلى أن 70% منهم يحملون أسماء تعود إلى العهد العثماني وأصلها عربي، إضافة إلى استخدامهم في محادثاتهم اليومية كلمات عربية وفارسية.

كتاب لتعليم الأحرف العثمانية والكتابة بها (الجزيرة)
كتاب لتعليم الأحرف العثمانية والكتابة بها (الجزيرة)

تاريخ الأسلاف
لكل تركي سبب وحكاية لتعلم العثمانية، لكن معظمهم يجمع على أن الدافع الأساسي هو الاطلاع على ما كتبه أجدادهم والذي يقبع تحت الغبار في الأرشيف.

الطالب بكلية التاريخ لواند كانديمير لم تكفه ساعات الدروس الإلزامية للعثمانية في جامعته، بل سجل في دورة خاصة لتطوير مهاراته فيها وتعلمها بشكل أعمق، مؤكدا للجزيرة نت أنه إلى جانب أهميتها في حياته الأكاديمية، هي ضرورية في حياته الشخصية إذ "يحزّ في نفسي عدم فهم جدتي عندما تستعمل كلمات باللغة العثمانية"، يقول بنبرة حزينة.

أما زميلته في الكلية صالحة أوزون كايا فأكدت للجزيرة نت أن تعلم اللغة العثمانية ضروري لإزاحة الستار عن المغالطات التي طالت الحقبة التاريخية العثمانية، معتبرة أن الوثائق الموجودة في أرشيف الدولة مكتوبة باللغة العثمانية.

وتضيف كايا أنه نظرا لعدم وجود عدد كافٍ من الأتراك الذين يعرفون فحواها، فقد صدق الناس كل ما يقال عن تلك الحقبة، مشددة على ضرورة نشر تعليمها لتربية جيل يتمكن منها ويساهم في الكشف عن حقيقة ماضي أسلافه.

وعبّرت عن أسفها لما حدث خلال ثورة الأحرف، وقالت إنه "لو حافظ الأتراك عند قيام الجمهورية على لغتهم وثقافتهم وقدّموا أنفسهم كما هم للغرب بدون التنازل عن ماضيهم وجذورهم، لكان الأمر مختلفا الآن".

المصدر : الجزيرة