شعار قسم ميدان

"كوفيد-19 طويل الأمد".. لأن المصائب لا تأتي فرادى

Sick woman having flu or cold. Girl lying in bed wearing protective mask by pills and water on table

على مدى أسبوعين، عانى أحمد، وهو شاب مصري يعمل بأحد الفنادق في مدينة الغردقة، من أعراض "كوفيد-19" المتوسطة، لكن مع جرعات علاجية مناسبة، مَرَّت الأزمة بسلام، لكن بقي شيء واحد فقط بدا وكأنه سيستمر للأبد، فبعد أن انتهت كل الأعراض المعروفة للمرض، استمر عَرَض واحد وهو شعور دائم بالإرهاق، حتى بات من الصعب عليه متابعة عمله بسهولة، امتزج ذلك مع صعوبة في تجميع الأفكار معا، مع مشكلات في التركيز والذاكرة، على مدار أكثر من ستة أشهر بعد إصابته الأولى!

 

خلال السنة الأولى من الوباء، كان التركيز الرئيسي على التعامل مع الحالات الحادة من المرض في أوج موجة تفشي الفيروس بين الناس، لكن مع هدوء الأمور وانتظامها نسبيا، والخبرة الكبيرة التي حصل عليها الأطباء في التعامل مع الحالات التي تدخل إليهم كل يوم، بدأت ملاحظة جديدة في الظهور شيئا فشيئا، فنحن نعرف أن متوسط فترة بقاء أعراض "كوفيد-19" هو نحو أسبوعين، في الحالات البسيطة إلى متوسطة الشدة، لكن بعض المرضى رغم ذلك لازمتهم بعض الأعراض لمدة وصلت إلى عدة أشهر بعد الإصابة، وحتى بعد أن ترك الفيروس أجسادهم.

 

أحمد ليس حالة خاصة، لا نعرف بعد نِسَب هؤلاء الذين يعانون مع "كوفيد-19" طويل الأمد من بين جميع مَن أُصيبوا بالمرض، لكن بحسب استقصاء من المركز الأميركي(1) للسيطرة على الأمراض (CDC)، فإن ثلث مصابي "كوفيد-19" من الحالات البسيطة إلى المتوسطة عانوا مع عَرَض واحد على الأقل لمدة زادت على 14-21 يوما ووصلت إلى ستة أشهر، الأغرب من ذلك أنه في الفئات العمرية الأقل تأثُّرا بأعراض المرض (18-34 سنة) الأساسية، ظهر النمط نفسه من الأعراض طويلة الأمد.

في بحث آخر أجراه مكتب الإحصاء الوطني البريطاني(2)، تبيَّن أن واحدا من كل خمسة مصابين ظل يعاني من أعراض "كوفيد-19" طويلة الأمد بعد خمسة أسابيع من الإصابة الأولية، وشخص واحد من كل سبعة أشخاص عانى من الأعراض بعد 12 أسبوعا، وقال خُمس هؤلاء الذين شاركوا في الدراسة إن الأعراض طويلة الأمد لـ "كوفيد-19" حدَّت كثيرا من أنشطتهم اليومية، بما في ذلك العمل.

 

على الجانب الآخر تقفز دراسة صدرت عن الجمعية الطبية الأميركية(3)، لباحثين إيطاليين، إلى أعلى تقدير ممكن لهذه النِّسَب، فتقول إن ما يقارب من تسعة من كل عشرة مرضى خرجوا من مستشفى في مدينة روما ظلّوا يعانون من عَرَض واحد على الأقل بعد 60 يوما من بداية المرض، حيث ظهر أن 13% فقط من أفراد العينة المشاركة في التجارب كانوا خالين تماما من أي أعراض، في حين أن 32% منهم كان لديهم عَرَض أو عَرَضان، و55% منهم لديهم ثلاثة أعراض أو أكثر.

 

هناك عدة أسباب مُتوقَّعة لاختلاف هذه النتائج، ففي حين أن عدد مصابي "كوفيد-19" حول العالم تخطى حاجز 150 مليون شخص، فإن أعداد المشاركين في الدراسات التي تفحص المصابين بالآثار طويلة الأمد لـ "كوفيد-19" لا تتجاوز عدة مئات إلى آلاف، وبالتالي من المُتوقَّع أن تكون هناك تباينات في النتائج بسبب تنوُّع عينات التجارب، خاصة أنه بالتأكيد ستكون هناك اختلافات في فئات الخاضعين للتجارب العمرية والطبية (وجود أمراض مزمنة يزيد من فرصة الإصابة بأعراض طويلة الأمد).

لكن المؤكد إلى الآن هو أن النسبة من المرضى التي تتعرَّض لـ "كوفيد-19" طويل الأمد تقفز فجأة فور تخطي المريض حاجز الحالة البسيطة أو المتوسطة ودخوله في نطاق الحالات الخطيرة أو الحرجة، في إحدى الدراسات من مستشفيات ووهان(4)، المدينة التي يُعتقد أنها شهدت أول تفشٍّ للمرض في العالم، وُجد أن ثلاثة أرباع المرضى الذين تركوا المستشفيات، بعد قضاء قرابة 6 أسابيع بحد أقصى (وهي متوسط الفترة التي يقضيها المرض مع الحالات الخطيرة إلى الحرجة)، استمروا في اختبار أعراض مرضية لمُدَد وصلت إلى ستة أشهر (في دراسات أخرى بلغت عاما!).

 

حتى الآن، يبدو أن العَرَض الرئيسي الذي يتبقى مع مرضى الحالات البسيطة إلى المتوسطة من "كوفيد-19" هو الشعور بالإرهاق، فبحسب دراسة(5) فحصت نحو 48 ألف حالة، فقد رُصد هذا العَرَض في نحو 60% من حالات "كوفيد-19" طويل الأمد، وعادة جاء مقترنا مع آلام في العضلات أو المفاصل، يليه الصداع بنسبة نحو 48%، ثم أعراض أخرى مثل السعال وضيق أو صعوبة التنفس، وآلام الصدر وسرعة ضربات القلب أو الخفقان والدوار عند الوقوف، والحمّى، كذلك قد يستمر فقدان الشم والتذوق مع المريض لفترة طويلة، وقد تظهر أعراض نفسية مثل الاكتئاب أو القلق وضباب الدماغ، والأخير هو حالة فقدان التركيز التي عانى منها أحمد الذي حكينا لك قصته في بداية المقال.

لكن بالطبع فإن الحالات الخطيرة من "كوفيد-19" تترك آثارا طويلة الأمد أكثر وضوحا وخطورة، وتمتد كذلك لفترات أطول، نحن نعرف الآن أن "كوفيد-19" ليس مجرد مرض تنفسي يُصيب الحلق وينتقل للرئة، بل يمكن أن يُسافر إلى مستقبلاته في كل مكان في الجسم تقريبا، يجده الباحثون في الدموع والبراز والعرق، وحينما تُفحص جُثث المتوفين جراء المرض فإن الفيروس يُرصد في الكلية والكبد والبنكرياس والقلب والمخ، بل وفي السائل الموجود حول الدماغ والحبل الشوكي!

 

لذلك فإن أي عجز في هذه الأعضاء بسبب الإصابة بكورونا غالبا ما يتسبَّب بدوره في أعراض طويلة الأمد، ولكننا لا نشاهدها إلا بنِسَب ضئيلة بحُكم أن الحالات الخطيرة من المرض لا تتجاوز 20% من المرضى بالأساس بينما يأتي المرض لـ 80% من الناس مصحوبا بأعراض بسيطة إلى متوسطة، وغالبا ما تتفاوت تلك الأعراض وتختلف باختلاف العضو الذي واجه مشكلات مع "كوفيد-19″، ولمزيد من التعمُّق في تلك النقطة يمكن أن تتأمل تقريرين سابقين للكاتب عن مشكلات "كوفيد-19" مع أعضاء الجسم (الرئة والدماغ)، وهما: حقائق مذهلة.. ماذا وجد العلماء عند تشريح جثث قتلى "كوفيد-19″؟ و"أغرب الفيروسات".. ما الذي يفعله "كوفيد-19" بالدماغ؟

A patient suffering from the coronavirus disease (COVID-19) lies in a bed at the COVID-19 hospital Batajnica in Belgrade, Serbia, April 7, 2021. REUTERS/Marko Djurica

يعتقد الباحثون كذلك أن هناك أسبابا أخرى(6) لـ "كوفيد-19" طويل الأمد بخلاف اضطرابات الأعضاء، منها مثلا انخفاض أداء الجهاز المناعي بعد معركته مع الفيروس، وكذلك تغيُّر نمط الوظائف الجسدية بسبب الراحة في الفراش أو عدم النشاط لفترة طويلة (حتّى في الحالات المتوسطة من المرض فإن 14-21 يوما من الخمول هي فترة طويلة)، أضف إلى ذلك أن إجهاد ما بعد الصدمة، سواء الجسدي أو النفسي، يتسبَّب في مشكلات طويلة الأمد، خاصة أن هناك درجة مُرتفعة من الرعب تجاه الوباء، وغالبا ما يُصاب معظم المرضى بأعراض القلق.

 

لكن المُثير للانتباه هو أن البحث عن أسباب هذه الحالة -التي لا تزال حتى كتابة هذه الكلمات غير واضحة بصورة تامة للباحثين في هذا النطاق- قادنا إلى تشابه بين أعراض "كوفيد-19" طويل الأمد الأكثر ظهورا وحالة أخرى غير مفهومة تماما أيضا تُسمى "متلازمة الإرهاق المزمن"، وهو اضطراب جسدي معقد يتميز بوجود تعب شديد لا يمكن تفسيره بأي حالة طبية كامنة، ويمكن أن يزداد التعب بممارسة نشاط بدني أو ذهني، ولكنه لا يتحسَّن تماما مع الراحة.

Penny Parkin, 69, who was exposed to COVID-19 on March 23, 2020, takes her daily afternoon nap while her husband, John Parkin, 85, reads the newspaper, in Doylestown, Pennsylvania, U.S., March 17, 2021. When I tell my husband that I’m really tired he says to stop what you’re doing and just lie down.” said Parkin as she continues to suffer from long term effects of the coronavirus disease. REUTERS/Hannah Beier TPX IMAGES OF THE DAY
بيني باركين، 69 عامًا، تعرضت لـ COVID-19 في 23 مارس 2020، لا تزال تعاني من الآثار طويلة المدى لمرض فيروس كورونا

ما زال هناك جدل بحثي حول أسباب متلازمة الإرهاق المزمن، لكن الرأي السائد بين الباحثين يقول إنها أقرب إلى مرض وراثي ناتج عن ضغوط مناعية تعرَّض لها الجسم، ولا يوجد بالطبع أداة للضغط على المناعة أكثر تأثيرا من العدوى الفيروسية، ففي عام 2006 تابعت دراسة(7) حالة نحو 253 مريضا أُصيبوا بفيروسات إبشتاين بار، والكوكسيلة البورنيتية، وفيروس نهر روس لمدة عام، ووجدت أن 12% منهم شُخِّصوا بمتلازمة الإرهاق المزمن خلال 6 أشهر من الإصابة.

 

في الواقع فإن حالة "كوفيد-19" طويل الأمد، على غرابتها، لم تكن مفاجئة(8) للباحثين فور ظهورها، لأن الكثير من الأمراض الفيروسية، مثل حمى غرب النيل وشلل الأطفال وحمى الضنك وزيكا والإنفلونزا الموسمية نفسها، إضافة إلى متلازمتين تنفسيتين تُسبِّبهما فيروسات أخرى من فئة الكورونا (الميرس والسارس)، تترك بعض مرضاها مع أعراض طويلة الأمد تتضمَّن التعب وألم المفاصل حتى لو كان ذلك بنِسَب أقل من "كوفيد-19″، وفي حالة الإنفلونزا الإسبانية التي اجتاحت العالم سنة 1918، ويُعتقد أنها قتلت حتى 50 مليون شخص، فإن العدد الهائل للمصابين قد أظهر تلك الحالة طويلة الأمد للأطباء، وسُمِّيت "متلازمة ما بعد الإصابة الفيروسية".

Medical staff members look at an X-ray of a patient, inside an intensive care unit for patients suffering from the coronavirus disease (COVID-19), at a hospital in Amman, Jordan March 23, 2021. Picture taken March 23, 2021. REUTERS/Muath Freij

في كل الأحوال، فإن العديد من الدول، في مقدمتها بريطانيا، قد بدأت بالفعل في إقامة عيادات خاصة لحالات "كوفيد-19" طويل الأمد، الأمر الذي سيُساعد المرضى على متابعة آثار المرض، وسوف يساعد كذلك الباحثين في رحلتهم لفهمه، وربما خلال أشهر نصل إلى معلومات أكثر دقة عنه.

 

لكن بجانب ذلك كله، فإن توعية الجمهور العام بهذا التطوُّر الجديد طويل الأمد للمرض يساعدهم على التوجُّه للمكان الصحيح لتلقي العلاج، خاصة أن الكثير من تلك الأعراض قد يكون مُخيفا جدا للمريض، ويتسبَّب في إصابته بأعراض القلق والاكتئاب ظنًّا منه أنه أُصيب بمرض مزمن أو أن كورونا لم يترك جسده بعد وسيبقى معه للأبد، بينما الحقيقة المُتفق عليها حتى الآن أنه بالرغم من أن أعراض "كوفيد-19" طويلة الأمد ربما تؤثر على حياة المصابين لفترة طويلة نسبيا، فإن الأمر لا يتطلَّب سوى الوعي بهذه الأعراض مع بعض الصبر، والمتابعة الطبية السليمة، من أجل استعادة العافية وتحقيق الشفاء.

————————————————————————————————-

المصادر

  1. Symptom Duration and Risk Factors for Delayed Return to Usual Health Among Outpatients with COVID-19 in a Multistate Health Care Systems Network — United States, March–June 2020
  2. Prevalence of ongoing symptoms following coronavirus (COVID-19) infection in the UK: 1 April 2021
  3. WHAT IS LONG COVID? WHY ARE PEOPLE HAVING SYMPTOMS FOR MONTHS?
  4. 6-month consequences of COVID-19 in patients discharged from hospital: a cohort study
  5. More than 50 Long-term effects of COVID-19: a systematic review and meta-analysis
  6. As Their Numbers Grow, COVID-19 “Long Haulers” Stump Experts
  7.  Post-infective and chronic fatigue syndromes precipitated by viral and non-viral pathogens: prospective cohort study
  8. Long Covid isn’t as unique as we thought
المصدر : الجزيرة